"نزرع الحاكورة، وسيأتي الحصاد"
نعيش اليوم، في فلسطين كلّها، لحظةً تاريخية مفصلية، يتعارك فيها يقين بالهوية وعدالة القضية الفلسطينية مع غموض المستقبل وثقل الأسئلة الجوهرية حول ماهيته وشكله. في الضفة وغزة، في القدس والداخل الفلسطيني، وفي الشتات، نشهد حرب إبادة مستمرة وممنهجة، لا تطال الجسد الفلسطيني وحده، بل تسعى لاقتلاع ذاكرته ومؤسساته ومستقبله من خلال استهداف الطفولة في هذه الإبادة.
في هذا السياق، نحاول في مؤسسة تامر من خلال حملة القراءة لعام 2025 المستوحاة كشعار ورسومات من أعمال أطفال غزة في زمن الإبادة بعنوان "نزرع الحاكورة، وسيأتي الحصاد" أن نفتح فسحة للتفكير الجماعي، أن نسأل معاً، أن نتأمل، أن نعيد الإيمان بقوة الفعل المجتمعي وبمسؤوليتنا المشتركة تجاه أنفسنا وتجاه بعضنا البعض وتجاه وطنا.
فمنذ تأسست مؤسسة تامر في الانتفاضة الأولى، حملنا هذا الإيمان: أن المجتمع الفلسطيني يملك القدرة على إنتاج أدواته التربوية والمعرفية والثقافية، وأن الأطفال والشباب قادرون على صياغة مصيرهم حين نمنحهم المساحة والفرصة والثقة. واليوم، بعد أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، نجد أنفسنا أمام الدور ذاته من جديد — لا كخيار، بل كضرورة حتمية.
ولهذا، تستلهم حملة القراءة لهذا العام حكاية بسيطة وموجعة من غزة: حكاية أب زرع قبل الحرب ثلاث شجرات في حاكورة بيته – برتقالة، زيتونة، وجوافة. وعندما اضطر مع عائلته للنزوح تحت نيران الإبادة، لم يتخلَّ عن الأمل، بل واصل وعده لأطفاله: حين نعود، سنزرع من جديد. في كانون الثاني نزرع العنب، في آذار نزرع اللوز، وفي أيار نزرع التين لأنه "بيتحمل العطش".
بهذا الوعد، لم يكن الأب يطمئن أطفاله فقط، بل كان يؤسس للمستقبل. فالأرض التي تركوها لم تُفقد، بل بقيت حيّة في الوعد، وفي التخطيط للزرع المقبل، شهراً بشهر، وشجرة بشجرة. إنّ هذا التذكّر للأشجار وللبيت وللحاكورة ليس حنيناً فقط، بل هو تأكيد على الاستمرار، وإعلانٌ أن ما كان سيبقى، وأن المستقبل لنا. فالأرض التي تتّسع لظل شجرة، تتّسع أيضاً لحكاية، ولمستقبل، لا يُصادره أحد.
هذه الشجرات هي استعارة لما نفعله اليوم: هي الكتب التي نقرأها، هي الأطفال الذين نحتضنهم، هي الحكايات التي نرويها ونرسمها من أصوات الأطفال لتصل إلينا قبل أن تصل إلى العالم، هي الجدوى المستمرة التي تدفعنا إلى الأمام بالرغم من صعوبة الواقع اليوم.
نزرع في ظل الدمار، والغياب، وحرب الإبادة، إيماناً منا بأن كل فعل صغير يحمل ثمرة مؤجلة.
تسعى الحملة للتأكيد على أننا ما زلنا هنا، نكتب، نفكر، ننتج، نحاور، ونؤمن بدورنا الفردي والجمعي في إعادة بناء مجتمع يرفض أن يُمحى.
في مواجهة الفقد، والعنف، والتجويع المتعمد ومحاولات الإبادة، نزرع معاً الحاكورة، مدركين تماماً أن الحصاد قادم لا محالة.
ندعو الجميع للمشاركة في هذه الحملة، ليس فقط لنقرأ، بل لنزرع معاً ما يرسّخ وجودنا، ويمنحنا القدرة على تخيّل مستقبل نملكه، ونحصد ثماره.